كلمة خالد الحلّي عن الكتاب

نجاة فخري مرسي في "آخر الجولات" 4 روايات تلخص نفسها في 4 قصص قصيرة
خالد الحلِّي
ملبورن

بعد إصداراتها العديدة في الشعر والقصة والبحث، أطلت علينا الأديبة نجاة فخري مرسي بمجموعة قصصية جديدة حملت عنوان "آخر الجولات" وصدرت عن شركة الندى للنشر في ملبورن. وقد جاءت هذه المجموعة بـ 92 صفحة من القطع الوسط، لتقدم لنا أربع قصص من واقع حياة الإنسان في المجتمعات الإنسانية على اختلافها. شاهدتها الأديبة نجاة أو سمعتها من أصحابها في بداياتها ونهاياتها، في كافة دوافعها السيكولوجية والإنسانية، وربما الإنسانية والنرجسية كحب المراهقة أو الحب من جانب واحد وغير ذلك من الحالات الإنسانية. ومن هنا ترى المؤلفة أن هذه القصص تستحق النشر لما فيها من عِبَر، وإذا وَجَدَ أحد أبطالها بعض التشابه في الأسماء، فالأمر سيكون مجرد صدفة.
تحمل القصة الأولى عنوان "عواطف ليديا"، وتمهد لها المؤلفة بقولها:
"في كلِّ مطلع شمس تُشيَّع قلوب إلى عوالم اليأس والإحباط والضياع. وتلد من تأثيرها قصص وحكايات، والقلوب تقع في نفس التجارب، وتعاني من نفس نوع الصدمة. فيصبح المستقبل في في نظرها سراباً. والسراب كثيراً ما يتحول إلى ضباب، والضباب تبدده أشعة الشمس، فتتضح الرؤيا، ولكن بعد فوات الأوان".
سرعان ما نلمس ونحن نقرأ هذه القصة أنها جاءت وكأنها مخطط أولي لكتابة رواية طويلة، وهذا ما لمسناه أيضاً بعد الانتهاء من قراءة القصص الثلاث الأخرى، على الرغم من وضوح الصور والدلالات، والقدرة الرائعة في التعبير والتواصل مع القاريء. لقد جنحت المؤلفة إلى الاختصار واعتماد منهج "ما قل ودل"، فجاءت القصص معبرة ومؤثرة، ومكتفية بنفسها بعيداً كل البعد عن الإطالة والتكرار. ولو كانت الكاتبة قد أرادت فقد كان بإمكانها إصدار أربع روايات تتضمن التفاصيل مسهبة ومطولة بدل إصدار كتاب يضم 4 قصص قصيرة، ويكشف لنا ما نعرفه عن قدراتها ومواهبها الكتابية أنها قادرة تماماً على ذلك، ولعل هذا كله يقودنا إلى تلمس كيف أنها قد اختارت الأسلوب الأفضل للتكثيف والإيجاز، في عصر السرعة الذي نعيشه، ومع صدور كتب كثيرة لا يستطيع المتابع أن يقرأ الكثير منها بسبب زحمة الوقت.
لقد اتخذت القصص طابعاً أخلاقياً وتربويا واجتماعيا، ينعكس بين السطور في سياق إبداعي جميل بعيد كل البعد عن الوعظ وتقديم النصح. كانت الرؤى الجميلة التي تناولت بها الكاتبة أحداث قصصها تنضح بذلك الطابع على نحو انسيابي كمحصلات لا تبدو أنها مقصودة، بل كمحصلات تلقائية يمكن أن يلمسها القاريء عبر قراءته بشكل عفوي.
تجسد لنا القصة الأولى محطات كثيرة من محطات حياة " ليديا" بما تحمله من أفراح وأتراح، ونجاح وفشل، وتجارب ذات دلالات في الحياة. لقد نشأت في أسرة موسرة، وكانت وحيدة أهلها التي لا يرد لها طلب، ولكن الدلال لم يفسدها بل كان لها بمثابة الحافز على الاجتهاد والنجاح في الدراسة. ولكن الأحداث تتتابع مؤثرة : رحيل الوالدة، دور الوالد وكفاحه، مرضها ووقوعها في وهم حب الطبيب، تجاربها في العمل، دراستها في لندن، سفرها إلى بلد آخر للعمل. وإذا كانت الكاتبة قد نجحت في اختصار رواية بقصة قصيرة، نجد من الصعب اختصار القصة القصيرة التي دونتها في سطور قليلة.
وجاءت القصة الثانية تحت عنوان "مذكرات أرملة"، وكانت أطول القصص، إذ تألفت من 31 صفحة، في حين تألفت القصتان الأولى والثانية من 22 صفحة لكل منهما، والقصة الرابعة من 22 صفحة. وقد مهدت المؤلف للقصة الثانية بالقول:
" كانت أم حسام البيروتية زوجة سعيدة مع أسرتها، سعيدة في وظيفة التدريس، زوجها محامي دفاع ناجح. فجأة أُصيب الزوج بداء عضال ألزمه الفراش، وأخذ يُعاني من نوبات آلام شديدة، يحتاج معها إلى الكثير من الأدوية، وإلى زيارة الأطباء والرعاية المنزلية الخاصة.
كانت الزوجة مدرسة، وقد جعلها مرض زوجها أكثر حاجة إلى وظيفتها، لتصرف على المريض وعلى الأسرة وعلى شؤؤن المنزل.
كان عليها أن تختار بين الاحتفاظ بوظيفتها، وبين التواجد إلى جانب زوجها، لتخفف من وحدته وآلامه إذا أمكن. أو أن تترك الوظيفة وتترك الجمل بما حمل. وبذلك يترتب عليها أن تبذل جهوداً مضاعفة للاستمرار بإعطاء الوظيفة حقها من الجهد، والمريض حقه من الرعاية، والأولاد الثلاثة حقهم من المتابعة والعطف والاهتمام.
وبعد أشهر من هذا الصراع القاسي توفي زوجها. وكانت الصدمة أقوى من أن تتحملها أم حسام الزوجة المثالية، فأخذت تهذي وتوجه إلى نفسها اللوم.
لقد جسدت لنا المؤلفة هذه الأحداث والمواقف بنبض صاف وحس إنساني سليم. وبالعودة إلى أم حسام البيروتية، سنجد أنها لم تكن زوجة مثالية فقط، بل كانت أماً مجاهدة ووفية كذلك.
ولعل من اللافت والمثير أن نجد في نهاية القصة الخاتمة التالية التي دونتها أديبتنا نجاة فخري مرسي :" أمّا أنا فقد سافرت في رحلة دراسية إلى مصر وعدت في نهايتها عام 1964 لأزور الصديقة أم حسام، وأسلمها القسم الأول من مذكراتها التي دونتها وطبعتها كما وعدت. ونكمل بعدها جلساتنا التي سأعتبرها القسم الثاني من رحلة أم حسام مع وحدتها وحياتها ومع أولادها الثلاثة ووظيفتها، وربما شيخوختها المبكرة.
ذهبت وكلي ثقة بأن أقابلها وأهنئها بنجاح حسام كطبيب وهو نجاح لها.
قرعت جرس الباب، فظهر لي وجه لا أعرفه. قلت : أنا فلانة صديقة أم حسام. قالت: لا يوجد في البيت من يحمل هذا الأسم. قلت: هل لك أن تتفضلي وتدليني على عنوانها الجديد؟ أجابت باختصار: لا أعرفه واستأذنت وأقفلت الباب. ومنذ ذلك التاريخ لم أجد أم حسام، ولا أعرف أين تعمل ولا أين يدرس ولداها سمير وغادة، ولا سبب تركها لبيتها. ولا أعرف من يرشدني إلى هذه الصديقة العابرة، التي استأجرت في منزلها غرفة لأسبوع واحد، وأنا في طريقي لمتابعة دراستي في مصر. ونشأت بيننا صداقة ومشاركة وجدانية، جعلتني أسمع مأساتها، وأقدر كل ما مرت به، وأسجل مذكراتها. وأرجو من فلبي أن أقابلها مرة ثانية رافلة بالسعادة والراحة والهدوء.
وبالانتقال إلى القصة الثالثة "كراسي التمييز" نجد أن المؤلفة تقدم لها بالشكل التالي "كانت ندى من مواليد قرية جنوبية في الثلث الأول من القرن العشرين يوم لم يكن في قريتها سوى مدرسة واحدة للصبيان.
قابلتها مع بنات جيلها في تلك الحقبة من الزمن، صعوبات في أحقية التعليم للفتيات في مجتمعها أولاً، ومن ثم عدم وجود مدرسة ابتدائية في قريتها ثانياً.
أصرت على الدراسة، مما دفع والدها إلى استعمال نفوذه مع الناظر ليدخلها هذه المدرسة، شريطة أن تجلس بعيداً عن الصبيان الذين يكبرونها سناً وحجماً. ووضع لها كرسي بجانب الحائط المقابل للصف، دون طاولة تضع عليها كتبها.
قبلت ندى التحدي معتمدة على ذاكرتها القوية، فأصبحت أول من يحفظ قصيدة "الاستظهار" التي يكتبها المدرس ويكررها. فبدأ ذلك يثير الحساسية ضدها عند زملائها الصبيان، وخاصة عندما استأثرت بالمركز الأول على الصف في كل امتحان.
تحملت المضايقات في الملعب، وفي المدرسة، وواصلت تفوقها ونجحت في امتحان الشهادة الابتدائية عربي-فرنسي بتقدير جيد.
جاءت هذه الأحداث بشكل قصصي مترابط وحميمي الوقع، وبما يجعل القاريء يحس وكأنه يراها تتحرك أمامه بشكل حي رغم أنها عبرت عن فترة مر زمن غير قصير على انقضائها.
أما القصة الرابعة التي عنونتها المؤلفة باسم "جولات غرام"، فقد جاءت بأربعة أجزاء حملت العناوين التالية :"الجولة الأولى : المراهقة"، "الجولة الثانية : شاطيء الأمان"، "الجولة الثالثة :الغانية"، "الجولة الرايعة :الزواج"،. وتعبر هذه القصة بشكل عام عن مراحل عمر الإنسان التي تشتمل على أربعة فصول، تشبه فصول الطبيعة وهي:
1- طفولة.
2- مراهقة.
3- شباب وآمال وتجارب وطموحات وزواج وإنجاب.
4- شيخوخة ونزول عن خشبة المسرح لتحتله وجوه جديدة. وهكاذا دواليك.
**
ملاحظة من الناشر: لقد كتب الاستاذ خالد الحلي هذه الكلمة عن كتاب نجاة المطبوع على الورق، أما الطبعة الالكترونية فقد أضيفت إليها (الأديان محبة)، كقصة أولى في الكتاب، لذلك اقتضى التنويه.
**