القصة الخامسة: جولات غرام


جولات غرام، مجموعة محطّات فيها تحليل متواضع للمراحل العاطفية والسايكولوجية في حياة الانسان.

تتكوّن مراحل عمر الآنسان من أربعة فصول تشبه فصول الطبيعة وهي:
1- طفولة
2- مراهقة
3- شباب وآمال وتجارب وطموحات وزواج وانجاب.
4- شيخوخة ونزول عن خشبة المسرح لتحتله وجوه جديدة. وهكذا دواليك


الجولة الأولى المراهقة
كان في الخامسة عشر من العمر، من التلامذة المواظبين المجتهدين في الدراسة، يمرح مع رفاق جيله، متفوّق في دراسته وعلى علاقة طيبة مع المدرّس.
صدر فجأة قرار نقل إستاذه الذي تعوّد على تشجيعه وتقديره لتفوّقه، إلى قرية أخرى. وكان من الطبيعي أن تختار الوزارة مدرّس آخر ليأخذ مكان المدرّس المنقول.
جاء المدرّس الجديد بعد يومين، وكان من أبناء المدينة، فاتفق الطلبة على زيارته للترحيب به وبقدومه، وكان ناجي معهم. وهنلك فوجئ ناجي بأن يكون للمدرّس الجديد شقيقة شابة، حضرت معه لترعى شؤونه في القرية.
رحّب الطلبة بالمدرّس الجديد ومعهم ناجي، ثمّ التفت إلى الفتاة ليلقي عليها التحية بإيمائة من رأسه، حسب تقاليد مجتمع قريته، إلاّ أنها تقدّمت ومدّت يدهالتصافحه، ومدّ يده لياقة، وهو يتلفت حوله ناظراً إلى وجوه زملائه، كأني به مقدم على مغامرة فُرضت عليه.
كانت أول مرّة يلمس فيها أنامل فتاة، فسرت نعومتها في جسده المراهق مصحوبة بمشاعر دافقة ظهرت على وجههه. دهشت الفتاة لانفعاله، معتبرة أن نوع من خجل الشاب الفلاح الخام عديـم التجربة.
شعر فجأة أن في داخله أمواج عاتية لا سبيل إلى السيطرة عليها. وعندما انتهت الزيارة، خرج الجميع. الكل يتكلم ويبدي ملاحظاته عن المدرّس الجديد، ويقوم بعمليات مقارنة بينه وبين من كان قبله، ومنهم من يمزح ويضحك، ما عدى ناجي الذي كان ساكتاً ساكناً، يستقبل الأنسام الخريفية التي ترطب حرارة جسده ووجهه.
نشأت بينه وبينها صداقة مع الوقت، سعت بجرأة اليها ثمّ حوّلتها بدهاء إلى حب جارف جعله يعتقد بأنه لو فقدها سيفقد صوابه.
كانت التجربة عاصفة، خاصة عندما انتهى الفصل الدراسي وبدأت أجازة الصيف، وعليها أن تعود مع شقيقها المدرّس إلى المدينة حاملة قلبه وحواسه معها. فعاش على رسائلها ومناجاتها. استمرّت بينهما المراسلة، وذكرى الأوقات الجميلة المنعشة والتي كادت أن تقضي على مستقبله الدراسي.
استمرّ يكتب لها ويبثها لواعج نفسه وأشواقه داعياً إلى الله أن يجمعهما ثانية.
بقى على هذه الحال فترة من الصعب تحديدها بالساعات والأيام. ينام ويصحو، وهي في البال. جميلة الجميلات، وحورية الحوريات إلى أن كادت تنشأ بيته وبين النوم عداوة، فاصفرّ وجهه، ونحل جسمه، وخفّت مقاومته فبدأ يفكّر بالإنتحار ليضع حدّاً لعذابه.
أقدم فعلاً على محاولة انتحار، وسلم من موتها، ولكنه لم يسلم بقية عمره من مضاعفاتها على صحته وأعصابه.
بدأ يشعر بعد سنوات بأنه قد تخطّى مرحلة المراهقة المدمّرة، وأخذ يتساءل: "أين كان أهلي؟ ... أين كانت أمي؟ ... وأين كان أبي وأخوتي وأخواتي الأكبر مني سناً ووعياً؟
هل أنا ما يسمونه المراهق؟
ثمّ يحدّث نفسه بالقول: نعم أن، آلام الحب ممتعة، وفي دموعه سعادة، ولكنها كانت بالنسبة إليّ كشاب قليل الخبرة والإدراك لأمسى جسده كانت صراعاً مريراً مع مشاعر عاصفة مفاجئة من الصعب السيطرة عليها.
انتهت الجولة الأولى





الجولة الثانية شاطئ الأمان
كانت صديقة لشقيقته، تتردد على منـزلهم بلا حساب. لم يكن يشعر بوجودها أثناء تجربته الأولى. ويظهر أنها قد شعرت بمعاناته، فأخذت تحاول أن تساعده وتقدم له ما تستطيع من الدعم والرعاية كواحدة من أخواته.
كانت رعايتها من النوع الصادق الساكت. فبدأ يألف وجودها ويشعر بنوع من الراحة بعد العزلة التي فرضها على نفسه والشعور بالضياع. وبدأ بعد فترة يسترجع في ذاكرته حكايته مع صديقته ابنة المدينة، ويعود شيئاً فشيئاً إلى وعيه، فيعي الأمور على حقيقتها، ويعيد حساباته القديمة. يسترجع في مخيلته صورة ساحرته ابنة المدينة، وتلفوناتها ومطالبها التي لا تنتهي، واستمرارها بشغله عن دروسه كأن الأمر لا يعنيها، أو لا يهمها، بل أن كل ما يهمها أن يبقى أسير غرامها مهما كلفه الأمر.
بدأت تزول الغمامة عن عيونه إما لأنه تعدّى فترة المراهقة، وإما لأنها بعيدة، أو لأنه لا وجه للمقارنة بينها وبين صديقة شقيقاته "فلّة "، إذ وضحت أمامه الرؤيا، فرأى أن من سبق واعتبرها جميلة الجميلات، وساحرة الساحرات، ليست أكثر من صورة لإنسانة عادية الشكل تماماً. جعلت منها كاميرا المراهقة تلك الأسطورة الساحرة، والتي استطاعت لمسة من أناملها أن توجّج مكا أجّحته في جسده وفي شرايينه من أحاسيس كادت تدمّر حياته.
شعر بأن عواطف المراهقة قد انتهت، وأنه قد بدأ يشعر بالأمان في وجود فلّة ذات الرائحة الذكية، وذات العيون النجلاء التي تقول نظراتها ما يعجز عنه قول الشعراء، وما تعجز هي عن قوله بدافع تربيتها.
نعم، كانت فتاة سمراء، على قدر متواضع من الجمال، وقدر وافر وآمر من الجاذبية، وقدر كبير من الأنوثة والإخلاص.
إنجذب "ناجي" لعيون "فلّة" النجلاء، ذات البريق الساحر الذي يقول أنها مستعدة لأن تضحّي في سبيل راحته. وأن تشقى كي يسعد، وأن تموت ليحيا. كل هذا منحه الراحة النفسية واعاد له ثقته بنفسه من جديد. وبدأ يشعر بأنه الرجل الذي يأمر فيُطاع، والعزيز الذي يمشي فترعى خطاه، وتبيّن له على الأقل الفرق بين فتاة المدينة وفتاة القرية.
وسبح ما طاب له في بحر حنانها الهادئ الآمن. وأكثر من ذلك اعتبرها "شاطئ الأمان". فنالت ما تستحقه من ثقته وتقديره.
أقبل ناجي على حياته من جديد كأن شيئاً لم يكن. حتى أنه قد صفح عن أهله الذين أهملوه عندما كان بحاجة ماسة لرعايتهم.
وأخيراً حكمت ظروف دراسته خارج القرية. فداهمته مشاعر تشبه مشاعر الطفل الذي يفارق أمه. وبقيت صورة "الأم الحبيبة" تحتل جزء من ذاكرته على مرور الزمن.
انتهت الجولة الثانية في لبنان عام 1960

الجولة الثالثة الغانية
إنه لمن أغرب ما تتعرّض له النفس البشرية من تجارب كانت تجربتي الثالثة، مع فتاة ظهرت فجأة في حياتي. فأثبتت لي أنه لمن السهل جداً أن تتغلب الغواية على المثُل عند الشباب. ومن السهل أيضاً أن تحجب بعض الغيوم نور الشمس وأشعتها، وأن تقصف الرياح العاتية بالزنابق والرياحين. أو أن يطغي نعيق الغربان على تغريد البلابل والحساسين. والأغرب من كل ما قاله ناجي أنه يعلم غرابة هذه الشواذات. ومع ذلك فقد استسلم للغواية، وضرب عرض الحائط بكل ما اعتاده من قواعد اخلاقية، ومُثل وموازين ومقاييس قروية واجتماعية.
ظهرت في حياته ظهور العاصفة، فغيّرت ثوابته ومثالياته بعد أن أيقظت كل ما استكان في جسده، واستنام في احتياجاته بغواية فيها أكثر من الإحتراف. مع أنها لم تكن محترفة، وتشغل وظيفة محترمة، إلاّ أنها من ذلك النوع الأرعن اللعوب الضاحك. صفاة تستطيع أن تستنـزف آخر قطرة من مناعة الرجال. والغريب أنه كان مدركاً لكل هذه الحقائق التي تستدعي اليقظة، لتجنبها الحذر منها، ولكنه لم يفعل، بل استسلم بكامل إرادته بعد أن شدّته مطالب جسده نحوها بسلاسل غوايتها، وأسلاك رغبته العارمة التي لم تشفى بعد من بقايا المراهقة، أو بقايا العشق البدائي، عديم التجارب أمام ينبوع متجدد من العذوبة.
إنغمس ناجي مع غانيته، مُطلقاً لغرائزه المكبوتة العنان غير آبه إلى ما كان أو ما سوف يكون، بعد أن عاش بقربها سحر المجون ومتعة الخروج عن المألوف، مما عرّفه على خطر المرأة المُجرّبة على الرّجل الخام.
استرسل وتمادى مُتّخذاً لنفسه الأعذار، ما دامت هي المانحة والمشجّعة أو هكذا تصوّر.
عاشت علاقتهما عدّة أسابيع، كانت حافلة وغنية بكل ما يشبع النفس والجسد، دون أن تقترب من القلب ونبضاته.
عجب لنفسه عند الفراق، كيف أنه لم يُفكّر مجرّد تفكير بأن يحتفظ بها بطريقة أو بأخرى. وعجب أكثر كيف أنها ودّعته، وعيونها الجميلة تجود بدموع ساخنة. ومع ذلك لم تحاول هي الأخرى أن تطلب منه عهداً أو وعداً، بل كانا بذلك كلصّان سرقا، وتقاسما المسروق ثمّ ذهب كلّ منهما بحال سبيله دون إثارة أي نقاش أو جدل حول ما سرقاه في غفلة من ضميرهما.
شعر بعد خروجه من عالمها الحافل الممتع بأنه مُتخم، وأنه بحاجة إلى جرعات من المياه الغازية الفوّارة، وإلى استلقاءة مريحة يأخذه بعدها سلطان النوم إلى حلم هادئ جديد.
انتهت الجولة الثالثة



الجولة الرابعة الزواج
تخرّج ناجي من الجامعة بمؤهل جامعي، يوفّر له العمل بوظيفة محترمة، فبدأ يفكّر بالزواج والإستقرار بعد كل ما مرّ به من تجارب عاطفية وسايكولوجية، ليعيش مع انسانة يختارها لتشاركه حياته في بناء الأسرة ولا تومض كالبرق، أو تعصف كالريح ثمّ تختفي. إنسانة تشاركه حياته، يُحبّها وتُحبّه. يمتلكها وتمتلكه. يشقى من أجلها، وتشقى من أجله؛ تُنجب الأطفال ليسعدان بهم ولا يفرّقهما سوى الموت.
للزواج في المجتمعات الإنسانية أجواء ومقدمات، شبيهة بالأجواء والمقدمات الشبيهة بالأجواء والمقدمات التي تسبق ليلة العيد. ولكل امرئ في هذا الكون الواسع الكبير تركيبته النفسية والعاطفية التي تختلف عن الآخرين. وكثير من الناس، من منهم يستقبل صباح العيد بالدموع والعبرات، إمّا لأسباب تخصّه، وإمّا لمجرّد الإنفعال المؤقّت الذي لا يميّز بين مشاعر السعادة أو غيرها من المشاعر الإنسانية التي لا نعرف لها تفسير.
هكذا كان حال ناجي يوم زفافه، مزيج من الغبطة والإنقباض. شعور بالغبطة بالنسبة لقرار الزواج والاستقرار، ومزيج بالإنسجام مع ذكرياته السابقة التي تبعده أو يبتعد بها عن رهبة الموقف "الحدث".
رحّب بزوجته أجمل ترحيب بعد حفل الزّفاف الجميل، وتحبّب إليها ما استطاع، لأنه يشعر حيالها بالذنب إذا لم تسأله عن ماضيه.
كان يقوم لا إرادياً بعملية تعقيم لذاكرته وأفكاره، قبل أن يدخل قفصها الذهبي، ويتدرّب على لعبة الزّواج والإستقرار.
أراد ناجي مع كل هذه النوايا الطيبة أن يبدأ بها حياتهما الزوجية. ولكن طيفاً واحداً من أطياف صديقاته الثلاث يصرّ على شغل جانب من ذاكرته، كان طيف رفيقة. أطلق عليها اسم "شاطئ الأمان" وإسم "الحبية الأم" يقتحم أفكاره ويرفض أن يغادرها، فيتصوّرها معه. تمنحه السماح والمسامحة، تبارك زواجه وتتمنى له السعادة.
أخذ يقنع نفسه أن اجترار حدث حبها النبيل الذي بُني على التضحيات والتسامح، لا يسئ لما هو مقدم عليه في حياته الزوجية. ويقنع نفسه أكثر بأن زوجته الرقيقة، التي ستصبح أم أولاده الواثقة بزوجها والقانعة بنصيبها، لا بدّ وأن تكون قادرة على أن تشغله عن تجارب الماضي، والحلّ في يديها. وبذلك تكسب الجولة الأخيرة وتحقق لها وله سعادة الهدوء والاستقرار.
قال أحد المخرّفين:
"المرأة هي المرأة" ولكن ناجي يريد أن يخالفه بقوله:
"الفوارق شاسعة وكبيرة بين امرأة وامرأة أخرى"
إذ منهنّ من تصيب العين فتفتنها ... ومنهنّ من تصيب القلب فتأسره ... ومنهنّ من تثير الغريزة فتشبعها ... ومنهنّ من تناسب العقل في توجهاته ... ومنهنّ من تصيب عقلك وقلبك معاً فتكون نصفك المفقود."
تقول تجاربه هذا مع أنه يعتبر نفسه حالة لا تصلح لأن تؤخذ كقاعدة.
نعود إلى الطبيعة وأسرارها، وسرّ بنات حواء. كلهنّ تسعى وتتبارى لإسعاد آدمها، وبالتالي كثيراً ما تفشل في الاستحواذ على مشاعره، أو أن تسري في شرايينه، أو تحتل أفكاره وذاكرته سوى واحدة.
أمّا الزوجة التي تدخل حياته باختياره، والتي تزرع له الورود، ظنّا منها بأنها المرأة الأولى في حياته، كما هو غالباً ما يكون الرجل الأول في حياتها.
بدأ يتصوّر زوجته كمن تقتلع الأشواك، وتزيل الشوائب من كل ركن من أركان ذاته ووجدانه، التي سبق وسكنتها أكثر من امرأة من قبلها.
ثمّ فجأة تجد أن الزمن قد سار، وان منظر الزوجة والأم المجاهدة قد أصبح مألوفاً لديه، مثله مثل أية قطعة من قطع أثاث المنـزل مما يزيده شعوراً بالرّتابة، وهو من سبق واعتاد على التجوال والوقوف في كل محطة من محطّات تجاربه العديدة. فيبدأ آدمها باجترار ذكرياته من جديد، أو يبدأ بالإنصراف عنها للتعويض بحب ثمراتهما بعد أن أفنت عمرها بحملهم وولادتهم ورعايتهم، ومع ذلك فإن رصيدها في بنوك الزمن لا يتعدّى الأصفار.
دم الأولاد لوالدهم، اسم الأولاد لوالدهم، وهي مجرّد ساعي بريد. تنتهي مهمته بعد تسليم الرسائل التي لا تحمل اسمها ولا عنوانها.
هذا لا يعني بأن زوجته، وأم أولاده ورفيقة عمره لا تُحبّ. ولكن ليته استطاع أن يحبها بقدر ما تستحق، لأنها لم تعد تستطيع أن تعطيه أكثر مما تبقّى من وقتها.
سارت بهما ألأيام بخطوات محسوبة، إلى أن بدأ يشعر أن كلّ ثمرة من ثمرات زواجهما بمثابة قيد، وهو لم يتعوّد القيود وإن تكن قيود المحبّبة.
أخذت صورة الماضي تبهت شيئاً فشيئاً، وأصبحت ذكرياته المكرّرة كالاسطوانة المشروخة، تفقد رونقها، وأصبحت الشيخوخة تدق أبوابه والذاكرة تهرم وتتآكل أشرطتها، ولم يبقَ من سيناريوهات ماضيه سوى خيوط وومضات تروح وتأتي، ما عدا خيط واحد عجزت الشيخوخة عن قطعه، وبقى يتذكر من وصفها "بشاطئ الأمان" "وبالأم الحبيبة" والتي أنقذه حبّها ورعايتها من مخاطر المراهقة.
استمرّت الحياة بين جدران منـزلهما الهادئ الجميل. بعد أن كبر الأولاد وكبرت معهم صورة الزوجة والأم المجاهدة في سبيل أسرتها وما بذلته في سبيلها من عمرها وعافيتها دون أجر أو منّة.
تقول طبيعة الأمور أن الإنسان الذي تعوّد أن يأخذ، ولا يفكّر أن يعطي ... وزوجته "فلّة" أو "فلّته" التي أعطت عمرها بكامله كزوجة وأم، إلى آخر قطرة من حياتها، ونفس من أنفاسها دون أن تطلب أكثر من الحب، ودون أن تُفكّر بأقل من أداء الواجب سيكون نصيبها أن يضعوا باقة من الزهر فوق ضريحها يوم تموت. الضريح الذي لن يحمل اسمها كاملاً كذلك الجندي المجهول.
بدأ ناجي كما عوّدته، يشعر في شيخوخته بحاجته لمزيد من رعايتها. وكلّ ما يشعره تجاهها بالإشفاق، لأنها هي الأخرى بحاجة إلى رعايته ولا تجدها. وهذا يجعله يشعر نحوها بنوع جديد من الحب والتقدير. وبإعجاب مميّز عن حب الأزواج لأنفسهم. ومع ذلك فهو لا يفكر بأن يرعاها، وكل أفكاره تنصب على حاجته لرعايتها له والإستجابة لمطالبه.
وأمّا الزمن الذي يسرق حيوية الشباب، ويستبدلها بشيخوخة متسللة إلى الجسد والقلب والعظام وبقية الحواس الخمس. مما يحوّل الإنسان إلى شاة أليفة بين قطيع البشر المسوق إلى نهايته، تاركاً وراءه ذرّيته وكل ما جنت يداه من علم ومال وذرّية وذكريات.
وضحت أمامه صورة هذه الدنيا، صورة حياة الإنسان وباقي المخلوقات من سن الطفولة إلى سن المراهقة، فالشباب، فالتجارب فالزواج، فالإنجاب، فالشيخوخة، فالكهولة وكل ما يرافق هذه التجارب والمحطّات من مدٍّ وجزر، ونجاح وفشل، وسعادة وإحباط، ومن سعادة عابرة، ورتابة واستقرار إلى أن تبيّن له أن كلّ ما مرّ به في سنين حياته، وكل ما عمله واجتهده في حياته لم يكن لصالحه بقدر ما هو لصالح البقاء.
نعم، انه قدر مرابي يعطي الشباب، والأحلام المشاعر البرّاقة إلى أن نؤدي رسالتنا كاملة. ثمّ يبدأ باسترداد كل شئ باسلوبه وبواسطة الشيخوخة المدمّرة بآلامها وقسوتها.
هذا طبعاً شأن جميع المخلوقات على الأرض من حيوانات، وطيور، وزواحف، ونبات تأتي كلّها بنفس الأسلوب، وتنتهي كلّها بنفس الأسلوب.
ولو سلّم الإنسان، كلّ انسان أن من حق الزمن أن يطبّق أحكامه بالعطاء والأخذ بالنسبة للمخلوقات، فليس من حقّه أبداً أن يغتال أحلامها، ولا أن يطفئ شموع آمالها ونضارتها وكرامتها، ويجعلها تجرّ خيبتها إلى قبور مظلمة، ولا تأخذ من حطام دنياها، حتى الذكريات.
وأمام مكشاهدته لفصول مكرّرة لمسرحية أزلية, أخذ يتصوّر أنه سيذهب غداً، وستذهب زوجته التي حملت وأنجبت وربّت وسهرت الليالي دون كلل أو ملل، تبقى ذرّيتهما لفترة زمنية يمثلون فيها أدوارهم، التي هي نسخة طبق الأصل عن أدوار آبائهم وأمهاتهم في نفس المسرحية. ثمّ تذهب ذرّيتهم تاركة أيضاً ذرّريتها. وهكذا دواليك، وهلم جرا. وتستمر المسرحية، ولا تتغيّر سوى الوجوه التي تقوم بنفس الأدوار، وفي نفس الفصول والحلقات، على نفس خشبة مسرح الحياة الأبدي ذاته.
وتدور برأيه عجلات هذا الدهر باتجاه مرسوم، ليستمر هذا الكون ما طاب له البقاء والاستمرار.
لعلّ ذلك هو سبب صُراخ الطفل عند ولادته !!!
تمت الجولة الرابعة عام 1976
ونُشرت في مجلة "الرسالة" على حلقات
في ملبورن – استراليا
**