القصة الرابعة: كراسي التميـيز


كانت ندى من مواليد قرية جنوبية في الثلث الأول من القرن العشرين يوم لم يكن في قريتها سوى مدرسة واحدة للصبيان.
قابَلْتَها مع بنات جيلها في تلك الحقبة من الزمن، صعوبات في أحقّية التلعيم للفتيات في مجتمعها أولاً، وعدم وجود مدرسة ابتدائية للبنات.
أصرّت على الدراسة، فدفع أصرارها والدها على استعمال نفوذه مع الناظر ليدخلها هذه المدرسة.
دخلت ندى مدرسة الصبيان بشرط أن تجلس بعيداً عن الطلبة الصبيان الذين يكبروها سناً وحجماً. ووضع لها كرسي لجانب الحائط المقابل للصف، دون طاولة تضع عليها كتابها أو قلمها.
قبلت ندى التّحدّي معتمدة على ذاكرتها القوية، فأصبحت أول من يحفظ قصيدة "الاستظهار" التي يكتبها المُدرّس على اللوح الأسود ويكررها، وأول من يحل العملية الحسابية. فبدأ ذلك يولّد حساسية ضدّها عند الصبيان، وخاصة عندما استأثرت بالمركز "الأول" على الصف في كل امتحان.
تحملت المضايقات في الملعب، وتفوّقت ثمّ نجحت في امتحان نهاية الدورة الدراسية المخصصة للشهادة الابتدائية "السرتفيكا" عربي فرنسي بتقدير جيد.
التثقيف الذاتي
بسبب عدم وجود مدرسة ثانوية للبنات أو الصبيان في ذلك الحين، وبسبب عدم السّماح للبنات بالسفر إلى المدينة لمتابعة الدراسة كما يُسمح للذكور، كانت النتيجة أنها لزمت البيت لمدة عشر سنوات.
لم تذهب تلك الأعوام سدى، رغم مرارتها على نفس "ندى"، فبدأت بروح التّحدّي، بالمطالعة الجادة بمعدل كتاب في اليوم في الليل والنهار: أدب مصري ... أدب عربي ... أدب لبناني ... أدب غربي مُترجم. المهم القراءة ثمّ القراءة إلى أن تحسّنت أحوال المجتمع، وأشرفت هي على العقد الثاني من العمر. يوم بدأ مجتمعها يقرّ بضرورة تعليم الفتيات، أصبح أخوتها الذكور وأخواتها الأصغر منها يحمل كلّ منهم ومنهنّ شهادات تخصص جامعية عالية.
كان لندى نصيب في هذا التحسّن، وأصبح والدها على ضوء رغبتها وتفوّقها، ورغبتها في متابعة دراستها يوافق على متابعة دراستها في المدينة. وكان لها أن دخلت مدرسة بنات "داخلي" أي مع الإقامة في المدينة.
وعند امتحانها، أهّلتها ثقافتها الذاتية في متابعة الصف الرابع ثانوي باللغة العربية. أمّا الفرنسية والإنجليزية، فكان لها تخطيط آخر.
كانت الفترة تُحتّم دراسة اللغات الأجنبية، فأخبرت المديرة بأنها تودّ أن تتابع دراسة الفرنسية أو الانجليزية فلم تمانع المديرة. ولكنها كمبتدأة عليها أن تتابع في الصف الأول، الذي هو طبعاً صفّ "الأطفال" أي عليها أن تدرس الانجليزية مع الأطفال.
وبما أن مقاعد الأطفال صغيرة، كان لا بدّ من جلوسها على كرسي تمييز مرة ثانية.
وقبلت ندى، وجلست على كرسي التمييز مرة ثانية ثمّ استعانت بمدرس خصوصي. وبتصميمها ومواظبتها، نجحت بامتحان آخر السنة المدرسية، ونالت السرتفيكا الابتدائية باللغة الانجليزية. وها هي الآن تُطبق يدها على شهادتين سرتفيكا واحدة عربي فرنسي وسرتفيكا انجليزي وهي في العشرين من العمر.
كانت تؤرقها فكرة الفوارق الثقافية بينها وبين أخوتها وأخواتها والتي ستوّلد فوارق إجتماعية أيضاُ.
حفل توزيع الشهادات
فاجأتها المديرة بأن عليها أن تتسلّم شهادتها فوق المنصّة مع الأطفال، فرفضت لأسبابها الخاصة وهي أولاً السّن وثانياً أن أكثر الحضور قد قرأوا لها في الصحف والمجلات.
فَرَفَضَتْ ورَفَضَتْ وما زالت ترفض كل ما تتعرّض له الفتيات من تمييز في المجتمعات السلفية المتعصّبة.
بقي حلمها الكبير أن تجلس على مقاعد الجامعة، لتضييق المساحة العلمية والاجتماعية والثقافية بينها وبين أخوتها وأخواتها. فأخذت تسابق الزمن، باسلوب ربما لم يكن مدروساً، ظنّاً منها أن دخولها أكثر من معهد في آن واحد، سيوصلها إلى هدفها. وفعلاً حملت أكثر من شهادة تخصص من معاهد عالية. ولكن كل هذه الشهادات قد شغلتها عن الوصول إلى الجامعة إلى أن اشتغلت بإحدى هذه الشهادات في الصحافة وفي الشؤون الإجتماعية، فكتبت ونشرت وألّفت، وقرضت الشعر وأصبح يدعوها البعض بالدكتورة ندى فتسبب لها هذه التسمية الألم وتذكرها بالحلم الذي لم يتحقق.
وهي اليوم راضية على نفسها بما حققته من تأليف كتب وأنشطة إجتماعية، وزواج موفق. ولكنها تعتبر بأنها قد فشلت بالوصول إلى هدفها العلمي والثقافي والجلوس على مقاعد الجامعة للتساوي مع أخوتها وأخواتها.
شريط الذكريات
في وسط هذه الدّوامة، جلست ندى مع نفسها تستعرض شريط ذكرياتها بعد أن أحسّت بالتعب والميل إلى تغيير مسارها. وأحسّت بشوق لأن تعود إلى قريتها الهادئة الجميلة التي تحبّها، وتحبّ عصف رياحها وجمال أزهارها، وأمواج الحمام في ساحاتها، وأهازيج الأفراح في ديارها، وجلسات السّمر والطرب في أمسياتها، وعبير وزّانها والمدى الأزرق في فضائها. وأشجار زيتونها وخرّوبها، وندى الصباح، وضوء القمر، وإشراقة شمس الصباح مع صياح الديك، وصوت المؤذّن واحمرار الشفق في أفقها آخر النهار.
لن تبهت في ذاكرتها ووجدانها هذه الرؤى، ولا أثّرت مشاغل دراستها، ولا حجبت ظروف البعد ذرّة من جمال الصورة في مُخيّلتها، بل بقيت مشرقة دائمة الإشراق.
لم تفكّر ندى طويلاً، بل اقترحت على نفسها أن تعود ومعها ما حققته في هذا الغياب من دراسة وتخصصات صَعُب عليها أن ترتقي إلى مستوى الجامعة، وإن تكن أفكارها وانتاجها الفكري قد ارتقى إلى مرتبة أدبية أصبحت مصدر قناعة واكتفاء، وقرّب المسافة بينها وبين كل فرد من أفراد أسرتها.
العودة
وفعلاً عادت، وعند عودتها، وجدت أن الأهل قد شاخوا قليلاً، وأن الأخوة والأخوات قد تزوج منهم ومنهنّ من تزوّج وسافر منهم من سافر. وأن والدها قد أهدى ثروته العقارية الكبيرة لأبنائه الذّكور باسلوب البيع والشراء الذي لا رجعة فيه، مُغفلاً حقّ بناته.
صدمها الخبر، وعاد بها إلى عزف سيمفونية التمييز وسلب حقوق البنت، وتركها بانتظار العريس.
الوصيّة: وأخيراً قررت أن يكون في وصيتها ردّ على هذا التمييز الذكوري الأزلي ، ضدّ البنات في هذا الكون خاصة، والنساء عامة، وأن يكون شعار الوصية على مبدأ: "أعطي من يعطيك ولا تعطي من لا يعطيك" فكتبت وصيتها لشقيقاتها البنات فقط، علّها تكون مبادرة معبرة عن لا إنسانية هذا الحرمان الدراسي والثقافي، ومن ثمّ الحرمان من الإرث من بعض الآباء وبعض المجتمعات. فحملت وصية ندى طابع الريادة في سبيل الحقوق الإنسانية، التي طالت عهود انتهاكها خاصة بالنسبة للمرأة كإنسان.
انتهت في استراليا
عام 2006
**