القصة الثالثة: مذكّرات أرملة

أمّ حسام البيروتية
كانت زوجة سعيدة مع أسرتها، سعيدة في وظيفة التدريس، زوجها محامي دفاع ناجح. فجأة أُصيب الزوج بداء عُضال ألزمه الفراش، وأخذ يُعاني من نوبات آلام جديدة، يحتاج معها إلى الكثير من الأدوية، وإلى زيارة الأطباء والرعاية المنـزلية الخاصة.
كانت الزوجة مدرّسة، جعلها مرض زوجها أكثر حاجة إلى وظيفتها، لتصرف على المريض وعلى الأسرة وعلى شؤون المنـزل.
كان عليها أن تختار بين الإحتفاظ بوظيفتها، وبين التواجد إلى جانب زوجها تخفف من وحدته وآلامه إذا أمكن. أو أن تترك الوظيفة وتترك الجمل بما حمل. وبذلك يترتب عليها أن تبذل جهود مضاعفة للإستمرار بإعطاء الوظيفة حقّها من جهد والمريض حقّه من الرعاية، والأولاد الثلاثة حقّهم.
وبعد بضعة أشهر من هذا الصراع القاسي توفى زوجها.
كانت الصدمة أقوى من أن تحملها أم حسام الزوجة المثالية، فأخذت تهذي وتوجّه إلى نفسها اللوم.
فهل أم حسام حقّاً مُلامة؟
سنحاول أن نجد في مذكراتها الجواب.
حاولت إقناعها قدر المستطاع، وأن أخفف عنها قدر المستطاع، وأصغيت لها وهي تكرر القول بأنها قد تركته يُعاني من الألم والوحدة، وأنها فضّلت الوظيفة وأنها ,انها.
قررت أن أصغي إليها، وأن أطلب منها تدوين مذكراتها التي تتحدث فيها مع نفسها وأنا مستعدّة أن أكتب هذه المذكرات، ثمّ أهديها لها لتحكم على نفسها بنفسها. وأنا كلي ثقة بأن حكمها سيريحها ويكون لصالحها.

الفصل الأول من المذكرات

الشهر أيار عام 1960
"اليوم مات زوجي ׳ عدلي׳"، واليوم صعدت روحه إلى السماء بعد أن تخلّصت من جسده المتألّم.
واليوم أصبحت وحيدة بدون عدلي، الزوج الناجح المثالي ضحية المرض والآلام.
غداً سنلتقي يا رفيقي وصديقي، وغداً أعوّض عن كل ما فاتك من رعايتي، وتعوّضني عن كل ما فاتني من مباهج الحياة.
أتراك كنت تشعر بتقصير الزوح والأب في الأشهر الأخيرة بسبب المرض؟ بمثلما كنت أنا أشعر بتقصير الزوجة التي اعتقلتها الوظيفة وشؤون معيشة أسرتها؟
أنا الآن أرملتك المفحوعة بفقدك ... أنظر إلى سريرك الخالي، أُلملم قارورات أدويتك من الغرفة ... أشعر أنها تصرخ في وجهي تعاتبني ... تذكرني بساعات الدوام الطويلة التي كنت أغيب عنك فيها ... أتركك مع آلامك ووحدتك لأذهب إلى العمل، ثمّ إلى السوق، ثمّ إلى الصيدلية، ثمّ إلى المطبخ والمنـزل لأكمل واجباتي تجاهك وتجاه أولادنا الثلاثة. وأنا أعرف أنك كنت تحتاج إلى الكثير من رعايتي النفسية التي لم تساعدني ظروفي أن أقدمها لك بالقدر الكافي ... لأن ما كنت أقدمه لك حتى في الساعات المتأخرة من الليل بالقدر المتبقي من طاقتي لم يكن يكفي.
أثناء تشييع الجنازة
ما أكثر الناس والمعزّين من حولي الآن! من يستطيع أن يشاركني أحزاني، أو يعوّض وجوده خسارتي، أو يخفف من شعوري بالتقصير غير المقصود.
ألا ليتني أستطيع أن أصرخ في وجوه هؤلاء المجلببات بالسواد؟ أمه ... وأخته ... وخالاته ... وعمّاته، سائلة ومتسائلة أين كُنَّ أثناء مرضه ووحدته؟ لماذا لم تشاركني إحداهنّ في تسليته؟ وتخفيف شعوره بالوحدة؟ أن أصرخ في وجوههنّ أن أسألهنّ؟ هل أن كل واجباتهنّ انحصرت في تشييع جنازته وارتداء السواد وترديد العبارات الجوفاء؟
الأسبوع الأول على غيابه
البيت خال من أنفاسك ... ومن آثارك الآن.
ما أشدّ حزني وشقائي كلما فكّرت بما عانيت من ألم ووحدة قبل رحيلك.
الأسبوع الثاني
لن أتحامل أو اتحمل أكثر من ذلك يا قدري ... ولن أكابر أكثر مما كابرت ...لم يعد يضيرني أن يعلم الجميع بأن قدري قد هزمني وأنه قد أخذ مني أغلى الناس. وأنك أنت قد تركت لي أمرّ الذكريات ... وأنك تركت لي ثلاثة من ثمرات حبنا ... ولدان وإبنة يحتاجون إلى الأبوين، وإلى الكثير الكثير من الرعاية لكي يستمروا بدراستهم دون أن تنقصهم الرعاية والحب متكاملان.
الأسبوع الثالث
اليوم سألتني ابنتي الصغيرة عن والدها، ومتى يعود؟ وعما عساها أن تجيب رفاقها في المدرسة عن موعد عودته؟ هل أوذي براءتها؟ هل أتجنب جرح مشاعر صغيرتي، وفي نفس الوقت لا أخبرها الحقيقة ... وإذا داريت الحقيقة فماذا أقول؟ هل أقول لها أن والدها لن يعود أبداً؟ فأصدقها القول وأصدمها؟ أم أكذب وأقول لها أنه سيعود، فأكذب لأرضي مشاعرها؟ أم وأم وأم؟
أخيراً قررت أن أقول لابنتي أن والدها لن يعود بمعنى الكلمة لأنه لم يغب ... وهو معنا وفي قلوبنا، فنظرت إليّ ببراءة الطفولة وهي لا تدرك ما عنيت.
الأسبوع الرابع
ذاكرتي مليئة بذكراك ... وزاخرة بعباراتك العاتبة التي تمدحني تارة وتؤنبني مرات.
تُصرّ ذاكرتي على الإحتفاظ بالأيام الجميلة التي عشناها معاً، وتعود وتذكرني بمرضك ووحدتك وآلامك ... تذكرني بتوسلك أن أجلس إلى جانبك، وتذكرني بوعودي الكاذبة لك بأنني سأنهي ما ينتظرني من واجبات لا تنتهي، ثمّ أعود. وعندما أعود في وقت متأخر تكون أنت قد غفيت.
الأسبوع الخامس
إنه اليوم الأول الذي تبدأ فيه إجازة المدارس الصيفية، وهو المناسبة التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر، لأرتاح وأقضيها مع أسرتي بعيداً عن هموم الوظيفة ومتاعبها. ولكن هذه المرّة قد تغيّرت مشاعري، وأصبحت أفضّل الاستمرار بالعمل على العودة إلى منـزل أنت لست فيه.
أرجو أن تعذرني أمومتي، وأن يعذرني أولادي على هذا التحوّل الجديد.
قد تكون العاصفة التي تسبق الهدوء، وقد يكون الرفض النفسي لفداحة الخسارة. لأن غيابك، وذكراك تحاصراني وتستفزّاني في كل ركن من أركان البيت.
الإنسان قوي وضعيف. والحياة حلم ويقظة. حلم عندما نريد أن نحلم، ويقظة عندما توقظنا لسعة الألم.
الأسبوع السادس
ما زلت أسمع المُعزّين يرددون: لِمَ الندم؟ ألست أنت التي وفّيت بكل واجباتك تجاه الجميع؟ كزوجة وأمّ وربّة أسرة، ومدرّسة على أكمل وجه. ولا يستطيع أحد أن يطالبك بأكثر من ذلك، ولكنك تصرّين على أنك قصّرتِ بل عجزت عن مواساة مريضك وتخفيف آلامه، وهذا يكفي لأن يشعرك بالندم.
الأسبوع السابع
أين يسكن الضّمير في هياكل بعض الناس؟ وكيف لا يفهمون أن لا دخل للعاداة والتقاليد المتعارف عليها في مجتمعاتهم؟ وكيف لا تدخل في حساباتهم الجوانب الإنسانية مهما تعارضت مع مُستلزمات الحياة.
أشعر أحياناً بميل شديد لأن أصرخ بملئ حنجرتي بأنني لو خُيّرت بين أن أملك الراحة والمال كله مقابل أن أخسرك وافتقدك لاخترتك.
بلا تا ريخ
بدأت أيّامي تسير بطيئة مملة ... والأرض تدور في فلكها على وتيرة واحدة ,,, تودّع فصل الصيف، لتستقبل الخريف، ثمّ تودّع الخريف لتستقبل الشتاء، ومن ثمّ ينتهي الشتاء بثلوجه لتطل شمس الربيع، بأزهاره وأطياره، وأنا ما زلت مُستسلمة لنظّارتي السوداء.
راقني أن أسجل هذه الخطرات بلا تاريخ، وأن أبتهل إلى الله أن تبقى روح فقيدي قريبة مني ولا تنساني في وحدتي والظروف تدور من حولي لتحوّلني مع الوقت إلى واحدة من قطيع البشر، تنساق لأحوال الدنيا، وتنشغل بالجري وراء خبزها وخبز أطفالها ... تضحك مع الضاحكين، وتبكي مع الباكين خاصة والأحوال المعيشية تتطلب من كاهلي الشبه متداعي أن يتحمل مسؤولياته في إعالة وتربية وتعليم ثلاثة أولاد. وأكون لهم بمثابة الأم والأب في طفولتهم وفي شبابهم، إلى أن يشقّوا طريقهم في الحياة على أنقاض عظامي. وأنا سعيدة متفائلة بنجاحهم في مستقبلهم.
حبذا لو تعلم أنني بقيت على العهد، وحبذا لو تراهم الآن وتشاركني فرحتي، لأنني استطعت أن أُوفّر لهم كل شئ. الدراسة في مدارسهم الخاصة ... الملابس الثمينة ... والصحة الجيدة. وسأستمرّ إلى أن أضعهم بيدي على عتبات المستقبل والنجاح باذن الله، كي تنعتق روحي من عقدة الذنب تجاه والدهم ولأثبت لمن حولي بأنني لم أكن يوماً مصابة بالهذيان.
***

الأم المجاهدة
ستقيم الحامعة اليوم حفل تخرّج دفعة من طلبة الطبّ، وسيكون اليوم بينهم ولدنا "حسام" وسيكون هذا اليوم بمثابة أول سجل تخرّجي برتبة "الأم المجاهدة" التي آن لها أن تتنفس الصعداء، بعد أن فقدت زوجها وهي في العقد الثالث من عمرها. وترمّلت في ظروف قاهرة لا أستطيع أن أقول أنها قد تجاوزتها. وكان من الممكن أن تستسلم لظروفها القاهرة هذه، وأن تُرسل أولادها لمدارس الحكومة المجّانية، أو تجد لنفسها العذر في تقبل شريك جديد لحياتها يساعدها في حمل المسؤولية أو أو كما تفعل ألاخريات.
ولكن لم تدخل في مفردات قاموسي، أو في موازين مفهومي مثل هذه الحلول الإنهزامية أمام الصعاب، التي أرادها المجتمع الشرقي للنساء والأمهات الأرامل.
استطعت كأمٍّ عصاميّة واعية أن أقدّم لأولادي ما يساعدهم على المضي في دراستهم وما اعتدت أن أقدمه بوجود والدهم.
وها أنا الآن، أرى جهودي تتجسّد أمام أعيني، وأنا أرى إبننا البكر حسام يقف على مسرح الإحتفال بروبه الجامعي الأسود، المحلّى بالشال الأحمر، مرفوع الجبين وهو يتسلّم شهادة تخرّجه من كلية الطبّ من يد رئيس الجامعة مبتسماً فرحاً.
اسمع التصفيق الحار، فأنسب نصفه إلى نفسي، لأن ما يناله الأبناء من تقدّم ونجاح في حفلات تخرّجهم من الجامعات، يجب أن يكون نصفه من حق الآباء اللذين بذلوا المال والحال في سبيل تأهيلهم وتسلمهم مفاتيح المستقبل.
ما أشد سعادتي اليوم، أن أضمّ "حسامي" إلى صدري، وهو الجزء الأكبر من رسالتي المقدّسة، وحلمي الجميل الذي تحقق.
توافد الجيران والأصدقاء بعد انتهاء الحفل ليشدّوا على يدي مهنّئين. فشعرت ولأول مرّة بعد وفاة زوجي بشئ من الرضا والكبرياء/ وسرى مفعول انتصاري في عروقي التي جفّت من فقدان السعادة. ولعلّ سرّ هذه السعادة المفاجئة هو أنني كنت أرى في شخصية ابننا حسام ما كنت أراه في شخصية والده عدلي فيتضاءل شعوري بالخسارة.
أقبّل حسام ليقبّلني وهو يقول:
"مبروك لك يا أمّي انها شهادتك، ولولاكِ لما أُتيح لي أن أنالها"
ضممته إلى صدري، وأنا أشعر بأن الدنيا كلها ملكي.
***

فكرة الهجرة
ها قد مضى جزء من السنة على تخرّج حسام من كلية الطبّ. وهو إلى الآن لم يجد الوظيفة. وفي صبيحة هذا اليوم، دخل غرفتي مُصبّحاً. ثمّ قبّلني وجلس على غير عادته. نظرت إليه متسائلة، فوجدت أنه يحاول أن يقول شيئاً ولكنه متردد. قلت: تكلّم يا ولدي، لقد تعوّدنا على المصارحة وبحث الأمور بحرية. إخبرني ماذا يدور في خلدك؟ وماذا تريد أن تقول؟ أجابني بسرعة وانفعال كمن يريد أن يلقي حملاً بأسرع ما يمكنه. قال: "أمي" لقد قررت أن أعمل في الخارج. ثمّّ سكت كمن أطلق قنبلة ووقف ينتظر أن يسمع صداها.
أعجزتني المفاجأة عن النطق، وأشعرتني بوجود حشرجة في صدري، إلى أن تمالكت وسألته: لماذا يا ولدي؟
أجابني بلا تردد: لأنني كما تعلمين قد تخرّجت منذ حوالي العام، وما زلت أبحث عن الوظيفة حتى الآن. أنا بحاجة ماسة إلى العمل من أجل أمّي واخوتي ومستقبلي.
قلت متسائلة: ولكن لماذا في الخارج وبعيداً عنّا؟ كان سؤالي سخيفاً، يحمل سخافة الاندفاع. وكيف أسأله وأنا أعلم بأنه لم يجد الوظيفة قريباً منّا.
كان جوابه ببساطة: لأنني لم أجد الوظيفة في وطني، ولا بدّ من البحث عنها في أماكن أخرى. ثمّ استطرد قائلاً: أرجوكِ يا أمّي أن تشجّعيني، وتسعديني بموافقتكِ ورضاكِ دون دموع. وعهدي بكِ الأم الشجاعة التي لا تساوم أثناء وضع القرار.
سكتُّ للحظة، ولم يكن سكوتي عن اقتناع، بل لأنني لم أجد ما أقول.
أنا أمّه التي يحبّ ويطيع ... وبإمكاني أن اخبره بعدم اقتناعي ... ولكنه مستقبله، ومستقبلنا جميعاً، وأنا أمه التي نمّت في شخصيته الجدّية ووضع الأمور في نصابها. وفعلاً أن ما يريده ألان هو عين الصواب.
في لحظة انشغالي بأفكاري وقف وابتسم وقال:
"السكوت يا سيدتي من علامات الرضى" فوضعني في لحظة أمام الأمر الواقع.
***

السّفر
للسفر والفراق لوعة، ولمنظر الطائرة وهي تحلّق حاملة قطعة من جسدك وروحك، رهبة خاصة تستفزّ دموعك ومخاوفك، وهي تأخذ منّا أولادنا نحو المجهول.
ها هو ولدي البكر الدكتور حسام يدخل الطائرة، ليضاف اسمه إلى قائمة الأسماء التي هاجرت قبله من وطنها إلى بلاد بعيدة، هرباً من صقيع الحاجة، وبحثاً عن دفء المستقبل المضمون والفرص المتوفرة فيها.
وها هي مشكلة الهجرة تدق بابي بعد أن دقّت أبواب كثيرة. عانت منها أكثر الأسر اللبنانية.
وها هي الهجرة ومشكلة الهجرة تتجسّد أمام أعيني بقسوتها ودوافعها التاريخية. والوطن غارق بمشاكله السياسية والإقتصادية والطائفية. وشبابه الذي يريد أن يبني مستقبله، ويتحمّل مسؤولياته تجاه أهله وأسرته، لا يجد أمامه جلّ سوى الهجرة والرحيل إلى الخارج.
أين أولادنا خرّيجي الجامعات، وحَمَلة المؤهلات؟ وهل علينا أن نفني أعمارنا في تعليمهم وتأهيلهم ليحملوا شهاداتهم، ثمّ يرحلوا بها إلى أمريكا وفرنسا وأستراليا، بل إلى كل بقعة من بقاع العالم ليبيعوا عرقنا لمن لا يستحقّه.
هذا بالإضافة إلى المُزارع الذي هجر أرضه وقريته وسافر بحثاً عن الرزق الأوفر في مجاهل أفريقيا، وآسيا، والفيليبين، وفنـزولاّ، والخليج العربي، وكلّ بقعة من بقاع الأرض.
وهكذا، فإن الشرق يعلّم أولاده بشق النفس، والغرب يمتصّ الأدمغة بالدولار ... ولولا الحبّ الكبير الذي يربطهم بأوطانهم وأسرهم، لخسارتهم أوطانهم إلى الأبد.
إذا سألت أي أمٍّ في لبنان عمّا إذا كان ولدها المهاجر قد نسيها، صاحت بوجهك قائلة "معذ الله" أن ينساني لأنني ربّيته على حبّ أرضه ووطنه وأهله ووالديه. وهذا لا ينفي طبعاً أن بعض أولادنا قد انسجموا مع حياتهم الجديدة، وبعضهم تزوّج من أجنبيات وأنجب واستوطن في مغتربه. ومنهم من نسي لغته الأم ولم يعلّمها لأولاده، واكتفى بلغة البلاد التي يعيش فيها ويعتبرها وطنه الثاني. فانقطعت من جرّاء هذه العوامل صلات اللغة والتراث والجذور إلى أجيال وأجيال.
لا أعلم لماذا أكتب كلّ هذا؟ ها لأقنع نفسي بأن ولدي حسام لن ينساني؟ أم لأنني بدأت أشعر بأنني أصبحت واحدة من آلاف الأمهات ضحية من ضحايا الإغتراب؟ وكلّ ما هنالك أنني أفكر بصوت عالٍ.
قالت لي إحدى جاراتي: "لا تقلقي يا جارة، لقد هاجر أولادي الثلاثة منذ سنوات. وكدت يومها أن أفقد صوابي وأنا أرى أحدهم يطلب الثاني، والثاني يطلب الثالث، إلى أن غابو وتغرّبوا وبقيت وحدي كأنني لم أفعل شيئاً في حياتي. لا أنجبت ولا ربّيت، ولا أمضيت زهرة شبابي وسني حياتي أحمل وأكدّ وأربّي وأسهر إلى أن كبروا وانصرفوا إلى حياتهم الخاصة ليفعلوا ما فعلنا في تأدية رسالة البقاء.
والآن أكتفي بزياراتهم مع زوجاتهم وأولادهم مرّة كلّ مدّة. ودائماً يكلموني هاتفياً فيطمئن قلبي وأروّض نفسي على الاكتفاء بسماع أصواتهم وأصوات أطفالهم. وفي أول كلّ شهر تصلني "الحوالة" – أي المبلغ الشهري – ودائماً يلحّون عليّ أن أسافر لأعيش بينهم. ولكنني أرفض لأنني أفضّل أن أعيش في بيتي مع ذكرياتي، وأن أقرأ صلواتي بلغتي ... ثمّ أن أموت وأدفن في تراب وطني لبنان. ثمّ سكتت، ثمّ عادت واستطردت تقول: لماذا أسافر؟ ما دمت مطمأنة على وجودهم بخير، وما داموا – حفظهم الله – يرسلون لي ما أحتاجه من مال لأعيش مرتاحة ولا أمدّ يدي إلى أحد.
أدهشني قول جارتي، وجعلني أعاود التفكير في أحكام الزّمن، وخضوع الإنسان لمثل هذه الأحكام التي منها أن تدرّب الأم نفسها لقبول الأمر الواقع. ثمّ تقنع نفسها بأسلوب القول: "مُكره أخاك لا بطل" وتصبح وحدتها وظروف معيشتها ذات أحكام. تعيش معها كلّ يوم وإن تكن تشعر بقسوتها. أم أن في "البعد جفاء" كما يُقال؟
وهذا طبعاً سينطبق عليّ كواحدة من القطيع
قطيع الأمهات في وطني لبنان، وأوطاني العربية كلّها بلا استثناء.
***

الرسالة الأولى من ولدي حسام
أمّي الحبيبة،
لقد كان فراقكم أنتِ وأخوتي أشدّ ألماً مما تصوّرت. وكانت الرحلة طويلة ومُتعبة. وأنا أتصوّرها تفصلني عن جذوري لتغرسني في تربة جديدة.
أما بعد أن وصلت بخير أُطمئنك بأنني بخير وأمان تام. وكل المظاهر تدلّ على أن البلد جميل، وأن فرص العمل فيه متوفرة. كذلك النظام والنظافة يكملان جماله ... وفيه السكان من تشكيلة رائعة مكوّنة من جميع الأجناس والخلفيات. من شعوب ولغات كثيرة. أما اللغة الرئيسية للتداول والتفاهم فهي الانجليزية، لغة البلاد وأنا أُجيدها من حمد الله.
إليكم عنواني، وبانتظار رسائلك لأشعر بأنني ما زلت بينكم ولست بعيداً عنكم. أحبكِ يا أمي وأشتاق لحنانك وأطلب دعواتكِ.
ابنكِ حسام.
الرسالة الثانية
أمي الحبيبة
استلمت رسالتكِ الجميلة، فنقلتني بحنانها وتعابيرها من الأجواء المادية الجافة التي بدأت أعيشها، وأتحسس أنواعاً عديدة فيهات من العنصرية بين جنس وجنس، وأتفهم بين نظام البلد زقوانينها الإجتماعية واحترامها لحقوق الإنسان وحقوق المرأة شئ، وبين النـزعات النفسية والعنصرية عند بعض الأجناس التي تُمثّل الأكثرية عند السكان والمغتربين شئ آخر. فالأبيض كعادته يشعر أو يُشعر نفسه بالفوقية بالنسبة للألوان الأخرى. والقانون يؤكد على احترام المرأة ورعاية الأسرة. ومع ذلك فإن "العنف المنـزلي" من المشاكل السارية، مثلا مثل الإدمان على الكحول والمخدّرات.
وهذا لا يعني أن هذه الأمراض السارية هي الغالبة على جمال البلد وحضارته التي أبرزها حبّه للرياضة بأنواعها وإجادتها، فتصدّرت بذلك العالم.
أعود وأطمئنكِ يا أمّي بأنني لن أستلم العمل قبل أن أعادل شهادتي. وبعد نجاحي بمعادلتها تحتاج إلى بعض الوقت. سأشترك بنقابة الأطباء، ثمّ أستلم عملي إمّا في مستشفى وإمّا في وزارة الصحة.
المهم أنني أطمئنك على أنني من اليوم الأول تقدمت بطلب منحة بطالة ونلتها، وهي تُغطّي كل مصاريفي في الوقت الحاضر.
أقبلك وإلى اللقاء في الرسالة القادمة.
ابنك حسام

الأم تبحث عن نفسها
غفت الأم على رسالة ولدها، وفي مُخيّلتها صور واحتمالات حلوة ومرّة، لما سيعانيه ابنها في غربته بعيداً عن صدر أمّه، وأخوته، ورفاقه ووطنه. أو ما قد يناله من نجاح في وطنه الجديد.
وعندما استيقظت في فترة من الليل، جالت في أفكارها ومُخيلتها، أمور وأمور تتعلق بمستقبل ولديها: سمير وغادة. حتى أنها أخذت تتصوّرهما، أو كلّ منهما، وهو فوق منصّة الجامعة، حيث وقف حسام وتسلّم شهادة تخصصه، ثمّ ينطلق بعدها ليشق طريقه في الحياة.
ولم يفتها أن تبحث عن نفسها، وأين عساها أن تكون؟ هل ستبقى مستمرّة تبحث عن نفسها قرب صليبها مع شيخوختها تنتظر أخبارهم ورسائلهم ودعوتهم كما تفعل جارتها؟ أم أنها ستلبي دعوتهم لتسافر وتعيش بينهم؟ تجسّدت أفكارها على شاشة الأحداث التي أحاطت وستحيط بها في القريب العاجل على شكل "تابلوه" مُجسّم لواقع أليم شبيه بأسراب الطيور المهاجرة التي تُهاجر كلّ خريف هرباً من موسم الصّقيع، وبحثاً عن الدفء والغذاء.
وشبابنا الذي يهاجر كلّ يوم بحثاً عن الوظيفة، وعن الغذاء وفرص النجاح. ولكن الطيور التي تهاجر لا تحمل شهاداتها معها لتؤجّرها لمن يوفّر لها العيش والأمان. والطيور التي تهاجر، لهجرتها مواسم، ولعودتها مواعيد. أمّا أولادنا، ليس لهجرتهم مواسم، ولا لعودتهم مواسم ومواعيد. ما دامت أزمات وطنهم السياسية والاقتصادية لا تنتهي.

الرسالة الثالثة
تنبّهت من أفكارها على جرس الباب، وكان ساعي البريد وفي يده برقية من ولدها حسام يقول فيها:
"أبشّركِ يا أمّي أنني نجحت بامتحان المعادلة، وتمّ تسجيلي في نقابة الأطباء. والآن أستطيع أن أمارس مهنتي كطبيب في موطني الجديد. وبإمكانك الآن أن تعتبريني رجلك الذي هو من صنع يديك. وأتمنى عليك أن تتركي العمل وترتاحي، لأنني أود أن أردّ بعض أفضالك عليّ. وسأتكفّل نيابة عن والدي وعنك بما تبقّى من رحلة تأهيل أخي سمير وشقيقتي غادة، وما يلزمك من شؤون المعيشة ان شاء الله.
أعدك بأنني سأحضر لرؤيتكم في أول فرصة.
أضمكم وأقبلكم
ابنك حسام
(انتهى الفصل الأول من مذكرات أم حسام والبقية تأتي عند رؤيتها مرة ثانية. نجاة 1960
أمّا أنا، فقد سافرت في رحلة دراسية إلى مصر وعدت في نهايتها عام 1964 لأزور الصديقة أم حسام، وأسلّمها القسم الأول من مذكراتها التي دوّنتها وطبعتها كما وعدت. بعدها نكمل جلساتنا التي سأعتبرها القسم الثاني من رحلة أمّ حسام مع وحدتها وحياتها ومع اولادها الثلاثة ووظيفتها، وربما شيخوختها المبكّرة.
ذهبت وكلّي ثقة بأن أقابلها وأهنؤها بنجاح حسام الذي هو نجاحها.
قرعت جرس الباب، فظهر لي وجه لا أعرفه. قلت: أنا فلاتة صديقة أم حسام. قالت: من تريدين؟ قلت الست أمّ حسام. قالت لا يوجد في هذا البيت هذا الأسم. قلت: هل لكِ أن تتفضلي وتدليني على عنوانها الجديد؟ أجابت باختصار لا أعرفه واستأذنت وقفلت الباب. ومنذ ذلك التاريخ لم أجد أمّ حسام. ولا أعرف عنوان حسام، ولا أعرف أين تعمل ولا أين يدرس ولديها سمير وغادة، ولا سبب تركها لبيتها؟ ولا أعرف من يرشدني إلى هذه الصديقة العابرة، التي استأجرت غرفة في منـزلها لاسبوع واحد، وأنا في طريقي لمتابعة دراستي في مصر. ونشأت بيننا صداقة، ومشاركة وجدانية، جعلتني أسمع مأساتها، وأقدّر كلّ ما مرّت به، وأسجّل مذكّراتها. وأرجو من كلّ قلبي أن أقابلها مرّة ثانية رافلة بالسعادة والراحة والهدوء.
تمت المذكّرات
أستراليا 1982
**