القصة الثانية: عواطف ليديا


عواطف ليديا
قصة فتاة ذكية وجميلة تيتَّمت بفقد الأم من صغرها، وعاشت فترة طفولتها برعاية الأب. هجرت مدينتها التي وُلدت فيها، والتي فيها الأب والأصدقاء وذكريات الطفوفة والجذور بسبب حب كان من نسج خيالها ولم يكن له وجود إلاّ في خيالها المراهق. قابلتها في ظروف زمالة، وعندما نشأت فيما بيننا صداقة ومودّة بدأت ألاحظ أنها تحب العزلة، فلم أحاول أن أتدخّل في خصوصياتها، وان كنت أُحاول أن أخرجها من عزلتها. وعندما قررت ليديا أن تفتح لي قلبها، وتقصّ عليّ قصة حياتها، قررت أن أكتب قصتها هذه لتقرأها كلّ فتاة مراهقة وتأخذ منها العبرة.

الإهداء والمقدمة
في كلّ مطلع شمس تُشيّع قلوب إلى عوالم اليأس والإحباط وربما الضياع. وتلد من تأثيرها قصص وحكايات، والقلوب تقع في نفس التجارب، وتعاني من نفس نوع الصدمة. فيصبح المستقبل في نظرها سراب. والسراب كثيرا ما يتحول إلى ضباب، والضباب تبدده أشعة الشمس، فتوضح الرؤيا، ولكن بعد فوات الآوان.
فإلى صديقتي ليديا أهدي هذه الرسالة كي لا تعيد نفسها التجارب، وخاصة المريرة منها.
نجاة

السنوات الأولى
وهكذا بدأت ليديا تروي قصتها بالقول:
كنت صغيرة ومدلّلة ووحيدة أهلي، ومن أسرة موفورة العيش لا ترفض لي طلباً، فلم يُفسدني الدلال، بل كان لي بمثابة الحافز على الاجتهاد والنجاح في دراستي.
صُدمت بوفاة والدتي في سن مبكّرة، فجاء موتها أول صدمة في حياتي وكان من الطبيعي أن تنشأ بيني وبين والدي صداقة عزيزة، ومساحات كبيرة من الحب والتفاهم. استطاعت أن تملأ الفراغ الذي تركه رحيل أمّي في نفسينا.
كان والدي يحاول أن يكون لي الأب والأم والمعلّم، وأنا بدوري كنت أحاول أن أملأ الفراغ الفظيع الذي تركه غياب رفيقة عمره.
المستشفى
شعرت ذات مساء بآلام حادة في جانبي الأيمن، فصرخت متأوّهة وأبكي من الوجع. فأسرع والدي باستدعاء الطبيب، وعندما وصل الطبيب طلب نقلي الى المستشفى فوراً، لأنني أحتاج إلى عملية جراحية لاستئصال الزائدة الدودية الملتهبة.
نُقلت إلى المستشفى في تلك الأمسية، وأُدخلت فوراً إلى غرفة العمليات حيث أُعطيت لي جرعة المخدّر التي أخذتني في سبات وغيبوبة لا ألم بعدها. فأجريت لي العملية، ولم أستيقظ تماماً قبل صباح اليوم التالي.
في ذلك الصباح "العجيب" الذي كان بمثابة نقطة تحوّل في حياتي الهادئة، عندما دخل الطبيب الجرّاح ومعه الممرضة وهما في نوبة مرور على المرضى في الصباح.
قلت صباح الخير يا دكتور: أجابني بلطف "صباح النور، الحمدلله على السلامة، كيف حالك الآن؟" أجبته قائلة الحقيقة أنني استيقظت لتوّي الآن ولا أعلم عن حالي أكثر من أنني ما زلت على قيد الحياة، وبدون ألم. فابتسم وقال: "لا بأس عليكِ". وقبل أن يكمل كلامه، دخل والدي وقبلني بلهفة، وهو يشكر الله لأنني رجعت له بالسلامة، ثم التفت إلى الطبيب ليشكره لأنه أنقذ حياتي، كما ويرجوه بأن يولينيي عناية خاصة لأنني ابنته الوحيدة، من أم عزيزة رحلت وأنا بعد صغيرة، فأصبحتُ كلّ ما يهمه في هذه الحياة. فابتسم الطبيب وتمتم قائلا: "يا لغرابة الصدفة" ثم استأذن وانصرف ليتفقّد بقية المرضى.
في اليوم التالي
دخل الطبيب غرفتي في مرور الصباح، وبعد أن سألني عن حالتي، وأخبرته بأنني أحسن حالاً، ابتسم وقال: "أنا تعوّدت أن أولي الفتيات في مثل سنّكِ عناية خاصة لأنك بعمر ابنتي الوحيدة من أم عزيزة تركتنا ورحلت" ثم طبطب على يدي بكلتا يديه وانصرف مودّعاً.
كان طبيبي فارع القامة، جذّاب الملامح، وقور الحركة، في العقد الخامس من العمر، أو هكذا توحي الشعيرات البيضاء التي تُزيّن مفرقيه وتضفي عليه معالم الأبوّة الرقيقة.
وجدتني عندما انصرف أسأل أول ممرضة تدخل الغرفة، أسئلة عنه كثيرة، أسئلة لا مبرّر لها. فأخبرتني بأنه يشغل مركز جرّاح وأنه يملك نصف المستشفى، وأنه يتمتع برصيد كبير من محبة الموظفين واحترام الممرضات.
إنصرفت الممرضة وبدأت أستنطق نفسي عن سرّ اهتمامي بشخصه وتأثري المفاجئ. هل لأنه من عمر والدي الذي أحبه كثيراً؟ هل بسبب لطفه الأبوي؟ أم لأنني في وضع صحّي يشعرني بالوهن وبالحاجة إلى مثل هذه الرعاية التي عوّدني والدي عليها؟ ولنقل تلك. فهل أنا بمزيد من الحاجة إلى الرعاية الأبوية؟ أم وأم؟
قبل مغادرة المستشفى في اليوم الرابع، حضر طبيبي ليتأكّد من أنني أستطيع مغادرة المستشفى، والعودة إلى المنـزل، فلم أفوّت الفرصة، وسألته عن ابنته التي هي من عمري، ثمّ تماديت في طلب معرفة اسمها وعنوانها لأنني أحبّ أن نتعارف، فرحّب بالفكرة، ثمّ أخبرني أن اسمها "بلبل" وكتب لي العنوان ورقم التلفون، متمنياً لي الصحة ثمّ ودعني وانصرف.
المهم أنني غادرت المستشفى في ذلك اليوم وبين ضلوعي مشاعر جديدة لم أُحاول أن أُناقشها، بل تركتها تسرح ةتمرح بين ضلوعي فتزداد سعادتي.
شاركني والدي الإعجاب بلطف الطبيب وإنسانيته، كما وقد رحّب بفكرة المزيد من التعارف. بعد أن أخبرته ما عرفته عن مصادفة التّشابه الغريب بين أسرتينا: إبنته وحيدة من أمّ عزيزة تركها وهي صغيرة ورحلت فترك فراغاً كبيراً.
بدأنا نتزاور .. وتطوّر التزاور إلى صداقة ومشاركة في شؤون الحياة، وتفكير الأبّان بمستقبل وحيدتيهما، وتفكير "ليديا" و "بلبل" بإسعاد والديهما.
شارك الطبيب والدي الإهتمام بمستقبلي الوظيفي والثقافي ونصحه بأن أدرس مهنة التمريض في بلد غربي لأعود وأعمل معه في غرفة العمليات. وهنا قاطعتهما لأقول: ولكن عفواً يا دكتور "حمدي" فإن مهنة التمريض في بلادنا غير مشرّفة.
أجابني بهدوء قائلاً: "أبداً يا صغيرتي أنت مخطئة، ليس التمريض هو الذي سيشرّفك، وانما أنت التي ستشرّفيه".
أضفت: ولكنني متأكّدة من أنك أعلم منا جميعاً بمستوى دراسة التمريض التخصّصي في بلدنا حالياً. إنه غير مُشجّع، مضاف إلى ذلك تلك النظرة التي ينظرها المرضى والمجتمع للممرضة.
أجاب: أنا لا أوافق، الدراسة يمكن التغلّب عليها بالتخصص في الخارج وبعد الإنتهاء من الدراسة الأولية في القاهرة.
تبسّمت بجرأة وأنا أتابع مُتسائلة: في الخارج يا دكتور "حمدي"؟ لفتاة مصرية؟
لم يلتفت لملاحظتي المبطّنة المشيرة إلى عوامل واقعنا الإجتماعي، بل تابع مُحدّثاً والدي، مُحاولاً إقناعه برأيه في هذا المجال وأكمل عبارته كأنه لم يسمعني قائلاً: "وبعد التخصّص والتخرّج من أحد مستشفيات لندن مثلاً، أكون واثقاً من أن ليديا ستغيّر رأيها لأن الممرضة المُتخصّصة Registered Sister تستطيع أن تفرض احترامها على المجتمع والمرضى وعلى الأطباء أيضاً." ضِف إلى ذلك أننا بحاجة ماسة إلى الممرضات الأخصّائيات في مستشفياتنا.
بدأ والدي يقتنع بالفكرة. رغماً عن اعتقاده أن دلّوعته ليديا لا تصلح لمثل هذا التخصص المتعب. ولكن الدكتور جمدي وعده بأن يكون لي بمثابة الأب أثناء دراستي الأولية في مستشفاه، ثمّ ستكون وظيفتي بعد التخصّص في غرفة العمليات.
انتهت السهرة وانصرف الدكتور حمدي، وذهب والدي إلى فراشه لينام. وجلست أنا في فراشي استرجع ما دار بيننا من حديث وأُحاول أن أُترجمه، فأجد أن حديثه واهتمامه بمستقبلي واختياره لمهنة التمريض والتخصّص لغرفة العمليات بالذات يعني الكثير. فأخذ عقلي الصغير يصوّر لي بأنه يحبني، وأنه يتحدث بلسان "الحب".

بداية الطريق
التحقت بمستشفى "الدمرداش" في القاهرة، تحت رعاية الدكتور حمدي، وكنت سعيدة برعايته. وقبل انتهاء مدة دراستي هذه، صُدمت بوفاة والدي بالسكتة القلبية، فكدت أفقد صوابي، وأن ألغي دراستي لأن والدي كان كل أسرتي، إلاّ أن القدر قد وفّر لي أسرة بديلة، تمسح دموعي، وتخفّف آلامي وتزيل مخاوفي من العيش وحيدة في هذا العالم. إنها أسرة الدكتور حمدي المكوّنة منه ومن ابنته "بلبل".
طبعاً استبعدت فكرة السفر، بعد وفاة والدي، وقررت أن أعمل بشهادتي الإبتدائية في التمريض في مستشفى "الدمرداش"، ثمّ تقدّمت بطلب عمل في مستشفى الدكتور حمدي، ظنّاُ مني بأنه لن يخيّب ظني بأن يكون رئيسي وهذا يوفّر لي الأمان.
فوجئ الدكتور حمدي بطلبـي، وجاء يؤنبني بشدة لم أتوقعها قائلاً: "أنت حتماً لست بكامل وعيك الآن، ومن الخطأ أن تتخذي مثل هذا القرار وأنت تحت تأثير فقدك لوالدك رحمه الله، وأنا متأكّد لو أن المرحوم والدك الآن معنا لرفض طلبك هذا، ومنعك من التفكير بالعمل في شهادة ابتدائية. واسمحي لي الآن يا صغيرتي أن أرفض طلبك باسم والدك الأول واسم والدك الثاني، لأنك حسبما أعلم لست بحاجة للعمل الآن، وأرثك من والديك يكفيك لأن تعيشي كل حياتك مرتاخة. والأهم الأهم أن تتابعي دراستك التي سبق واخترناها لك في أحد مستشفيات لندن. وها أنت قد أنهيت المرحلة الأولى بنجاح ولم يبقَ أمامك سوى السفر للتخصّص في فن التمريض، أو أن تختاري أية دراسة تفضّليها، أو حتى أن تصرفي النظر عن هذا أو ذاك نهائياً وتنتظري العريس." ثمّ تابع منفعلاً: أرجو أن لا تفكري ولو للحظة أنني أقول ذلك لأنني أرفض توظيفك عندي في المستشفى ولكن ...
كان فعلاً يكلمني بلهجة الوالد الحريص على مستقبل إبنته. ومع ذلك بدأ عقلي المراهق يصرّ على أنها ليست لغة الأب، ولكنها لغة الحب. وهو يصرّ على التخصّص بفن التمريض، لكي يضمن قربي منه في غرفة العمليات، أو أنه يريد تأهيلي لأليق به.
ما أجملها من أفكار، أن أعمل أكثر ساعات النهار بجانبه أمسح العرق عن جبينه، تلتقي نظراتنا .. تخفق قلوبنا، أحسّ بحرارة أنفاسه، وأسمع صوته وأتلقّى أوامره.
يا لها من حياة أجمل من كل خيال، وأقرب من كل محال، وتستحق السفر والدراسة.
ولكن السفر الذي لم أُجرّبه من قبل، ويحتاج الكثير من الجرأة والتّصميم. وعندما استشرت صديقتي "بلبل" كان رأيها من رأي والدها. فشجّعني هذا، وزادني جرأة وتصميماً.
في لندن
وجدت في لندن حياة جديدة ومُختلفة، تحتاج إلى قدر كبير من التكيّف في السلوك وفي المأكل والملبس.
كانت مجموعة الممرضات مكوّنة من توليفة عجيبة من الجنسيات واللغات والطباع والخلفيات.
أخذ موضوع التعرّف على كل هذا يسلّيتي في وحدتي، مع الأحتفاظ بطباعي وتقاليدي.
بقيت صورة والدي تحتل ذاكرتي، وصورة طبيبي لها مكانة في مُخيّلتي كلما انفردت بنفسي، فأتصوّر قامته الآسرة ماثلة أمامي، والشيب الذي يُجمّل مفرقيه، بل وصوته الحنون لا يفارق مسامعي، وكأنه سينفونية جميلة نادة.
أستطعت أن أتكيّف قليلاً مع العالم، علماً بأن المصري لا يتكيّف بسرعة لشدّة اعتزازه بقيمه وتقاليده، واستطعت مع الدقّة في العمل وسهولة التنفيذ، أن أتأكد من أن مهنة التمريض في مستشفيات لندن قد فرضت احترامها، واحتفظت باصولها وقوانينها تماماً كما أرادنها مدرسة "فلورنس نايتنغال" لدرجة أن "الكاب" الذي تلبسه الممرضة المتخصّصة هة شبيه بالذي يلبسه الجندي، له قيود وقوانين صارمة تفرض احترامه على الجميع. وهو أهلاً لهذا الإحترام، ما دامت الممرضة التي تلبسه جديرة باحترام الجميع كملاك من ملائكة الرحمة.
كثيراً ما كانت أفكاري تُقاطع دراستي. أفكّر بغياب والدي، أفكّر في مستقبلي، وما قد يحمله لفتاة في مقتبل عمرها مثلي يتيمة الأم ثمّ الأب، ثمّ تنقلني هذه الأفكار مباشرة إلى أسرتي الجديدة المكوّنة من الدكتور حمدي وابنته "بلبل"، فيسرح خيالي بعيداً عن الكتاب، وأبدأ بالتساؤل هل الدكتور حمدي يساعدني ويرعاني لمجرد أنني ابنة صديق، أم أنها نزعة اخلاقية وانسانية؟ أم أنه يحبني كما أحبه؟ ولكنه يناديني بابنتي، ولم أرَ يوماً في نظراته ما يوحي بما أحلم.
عجزت عن اقناع نفسي، ووكذلك عجزت نفسي عن أقناعي بأنها مجرد رعاية وكرم أخلاق.
وصلت مع الوقت إلى قناعة بأنني أُخادع نفسي، وأعيش قصة حب لا وجود لها إلاّ في خيالي المُراهق. وأعود وأُلقي اللوم على قدري الذي وضعني في هذه الحيرة، وهذا الشعور بالضياع أمام واقع جعلت منه ملاذي الوحيد في دنيتي. وهذا لا يعني أن أبقى على ضعفي وحيرتي. الى أن بدأت أنفاس والدي وروحه يرشداني لأن أثوب إلى رشدي وانصرف إلى دراستي لأضمن نجاحي الذي سيوصلني إلى كل ما يقوّي عزيمتي ويثبّت أقدامي، ويوصلني إلى ما أريد حيث سأجد الجواب.
العودة
أخيراً انتهت دراستي بنجاح، فسارعت لوضع حدّ لهذه الغربة. وفي الطائرة بدأت أحلم من جديد بحلاوة اللقاء.
هبطت الطائرة في مطار القاهرة، وهبط قلبي معها، وطارت عيوني تبحث وسط جمهور الإنتظار، فلم يخب ظنّي، لأنني وجدته ومعه "بلبل" وسيدة أخرى لا أعرفها. وبعد السلام والاستقبال الحار قدّمتني "بلبل" إلى السيدة قائلة بأنني صديقتها وصديقة العائلة، ثمّ التفتت إليّ قائلة: "سلّمي يا عزيزتي ليديا على خالتي شقيقة والدتي، والتي أصبحت بمثابة أمّي بعد أن تزوّجها والدي."
دارت بي الدنيا، وفقدت توازني من وقع الصدمة، وأصابتني نوبة من الضحك، اعتبروها فرحتي باللقاء. ألقيت التحية على الدكتور حمدي وقبّلت صديقتي "بلبل" ثمّ قدّمت له ولزوجته التهاني.
في السيارة بدأت أشعر بأنني عاجزة عن التمثيل والكلام، فأجاوب على قدر السؤال، وأرسم على وجهي ابتسامة مصطنعة إلى أن تمكّنت من اقناعهم بأن يوصلوني أولاً إلى منـزلي كي أستريح من عناء السفر.
اختليت بنفسي في المنـزل أُلملم أفكاري المبعثرة، وذكرياتي النرجسية. المنـزل كبير، خالٍ من الأم والأب .. الوحدة قاتلة .. أحلامي تهرب من نوافذه وأبوابه .. تتركني مع الواقع الذي شلّ أفكاري، وجعلني عاجزة عن التفكير فأتضاءل أمام نفسي لأن موضوع الحب كان كله من بنات أفكاري.
استلقيت على سريري مُتعبة جسدياً، ومُرهقة نفسياً. فنمت نومة اليائس، كمثلما ينام الجندي العائد من معركة خاسرة.
رأيت والدي في الحلم يقترب مني ويقول: "لا تيأسي يا جميلتي من رحمة الله، فهو سينير طريقك، وهو سيهديك إلى ما فيه خيرك بعد ان عشت وعيّشت نفسك في سراب. أنا واثق الآن من أن في يدك شهادتك ويمكنك الانسحاب والعمل بمؤهلك في أي مكان.
إنسحبـي يا اينتي ببطء، وابعدي دون أن تسيئي لنفسك ولأسرتك الجديدة التي أحبّتك ونابت عني في رعايتك. وستبقى روحي ترعاك أينما وحيثما كنت إلى أن تصلي إلى النجاح والسعادة التي أتمناها لك.
ابتعد والدي بعد أن فتح طيفه القفص الذي حبست نفسي فيه. استيقظت وأخذت أتذكّر كل كلمة من أقوال والدي.
"انسحبي ببطء" ولكن كيف لي أن أفعل ذلك قبل أن أدخل إلى غرفة العمليات التي كان دخولي إليها جزء من مخطط ثقافتي وأوهامي؟فأسئ بذلك إلى الأسرة التي غمرتني برعايتها، وإلى الدكتور حمدي الذي كان محور أفكاري وطمأنينتي بعد أن فقدت أهلي؟
لا بدّ إذن من العمل في الخارج. وبشهادتي وتخصّصي الآن أستطيع كما قال والدي "أن أعمل في أي مكان خارج بلدي."
باشرت فوراً بالبحث عن عمل مع وزارة الصحة في بلد عربي، وتمّ لي ما أردت. رحلت عن وطني الذي أحبه حاملة بين ثيابي، وتحت ثنايا جلدي، وفي كل دفقة من دفقات دمي عبر شراييـني، مشاعر الأسى والذكريات التي لا استطيع أن أسمّيها إن سلباً أو ايجاباً سوى أنها كانت حلوة مرّة، أو أنها كانت قصة بلا عنوان – أو أنها المسرحية التي كتبتها وأخرجتها ومثّلتها بمفردي .. أو السنفونية التي عزفتها لنفسي والتي انتهت دون أن أضع لها نهاية.
قد تسأليني يا صديقتي، كيف أنني استطعت أن أُقنع طبيبي وأسرته بسفري؟ أو كيف وجدت الوظيفة دون علمهم؟ هذا لا يهم الآن، وإنما الأهم أنني وجدت الوظيفة، وأنني أقدمت على مغامرة السفر إلى بلد غريب بمفردي. كل هذا قد أصبح فعل ماضي الآن. ويظهر أن تجربة سفري إلى لندن قد كان لها دور في مغامرة السفر هذه المرّة. بعد خمس سنوات من الغربة، والعمل في مستشفيات جديدة مع وجوه جديدة من أطباء وممرضات من كل جنس ولون. قاومت فيها حنين العودة إلى القاهرة التي يوجد فيها الجذور، ومشاعر الإنتماء، والأمان بوجود دكتور حمدي وأسرته الحبيبة التي لم يكن لها يد فيما غزلته حول نفسي من نرجسية وأوهام.
كنت في فترة وجودي في لندن أبعث برسائلي إلى صديقتي "بلبل" بالأكاذيب عن سعادتي في عملي، وعن شوقي الزائد إلى العودة التي أتمنى أن تكون في أقرب وقت. في حين أصبحت الآن رسائلها مليئة بقصص حنان خالتها، وسعادتها بأن تصبح لها أمّ جديدة، كما أخبرتني برسالتها الأخيرة عن خطوبتها إلى طبيب شاب، وكم تتمنى لو أني أحضر حفل الخطوبة الجميل، لأرى وسامة العريس وأناقة العروس وكم وكم أنها تتذكر تلك اللحظات السعيدة. وفي تلك الرسالة الأخيرة تسترسل بوصف الحفل، ووصف الحضور، وبمدى أسفها لأنني لست معها وهلم جرا.
وها أنا الآن في غربة جديدة، وفي واقع جديد لا خداع ولا خيالات مخادعة فيه. أشعر بفراغ، أشغر بضياع، أشعر بنجاح، ولكنني فقدت الطمأنينة والعاطفة والإنتماء. أصرّ على الإستمرار إلى أن أثوب إلى رشدي وتنقشع غمامة الوحدة، وأشعر بأنني واحدة من مجتمعي الجديد.
تمت في عاصمة عربية
عام 1958
**